فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين}.
قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين.
وقيل: جاء قوله: {اثنينِ} توكيدًا.
ولما كان الإله الحق لا يتعدّد وأن كل من يتعدّد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد.
{إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} يعني ذاته المقدّسة.
وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته حسبما تقدّم في البقرة بيانه وذكرناه في اسمه الواحد في شرح الأسماء، والحمد لله.
{فَإيَّايَ فارهبون} أي خافون.
وقد تقدّم في البقرة.
قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَلَهُ الدين وَاصِبًا}.
الدِّين: الطاعة والإخلاص.
و{وَاصِبًا} معناه دائمًا؛ قاله الفرّاء، حكاه الجوهريّ.
وَصَبَ الشيء يَصِب وُصوبًا، أي دام.
ووَصَب الرجل على الأمر إذا واظب عليه.
والمعنى: طاعة الله واجبة أبدًا.
وممن قال واصبا دائمًا: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.
ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي دائم.
وقال الدُّؤَلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** بذم يكون الدهر أجمع واصبا

أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:
ما أبتغي الحمد القليلَ بقاؤه ** يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وقيل: الوَصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها.
ومنه قول الشاعر:
لا يُمسك الساقَ من أين ولا وَصَب ** ولا يَعَضّ على شُرْسُوفِهِ الصفر

وقال ابن عباس: {واصبا} واجبًا.
الفراء والكلبي: خالصا.
{أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله.
ف {غير} نصب ب {تتقون}.
قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله}.
قال الفراء.
{ما} بمعنى الجزاء.
والباء في {بكم} متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم.
{مِّن نِّعْمَةٍ} أي صحة جسم وَسَعة رزق وولد فمن الله.
وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي.
{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} أي السّقم والبلاء والقَحْط.
{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي تضجون بالدعاء.
يقال: جَأر يَجْأَر جُؤارًا.
والجُؤار مثل الخُوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح.
وقرأ بعضهم {عجْلًا جسَدًا لَهُ جُؤَارٌ}؛ حكاه الأخفش.
وجأر الرجل إلى الله، أي تضرّع بالدعاء.
وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثًا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تُضِيف وتجأرا

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} أي البلاء والسقم.
{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار.
فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد تقدّم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان وغيرها.
وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء.
أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كَيّ.
وقيل لام العاقبة.
وقيل: {لِيَكْفُرُوا بما آتَيْنَاهُم} أي ليجعلوا النعمة سببًا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:
والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفس المُنْعِم

{فَتَمَتَّعُواْ} أمر تهديد.
وقرأ عبد الله: {قل تمتعوا}.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمركم. اهـ.

.قال الخازن:

{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين}.
لما أخبر الله في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} قال الزجاج: ذكر الإثنين توكيدًا لقوله إلهين وقال: صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الإثنين لا يكون كل واحد منهما إلهًا، ولكن اتخذوا إلهًا واحدًا، وهو قوله تبارك وتعالى: {إنما هو إله واحد} لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدره والإرادة فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى: {إنما هو إله واحد} يعني لا يجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد {فإياي فارهبون} يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه {وله ما في السموات والأرض} لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيدًا له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى: {وله ما في السموات والأرض} يعني عبيدًا وملكًا {وله الدين واصبًا} يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائمًا ثابتًا والواصب: الدائم.
قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبدًا، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائمًا أبدًا {أفغير الله تتقون} يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الانكار قوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه.
ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها {ثم إذا مسَّكم الضر} أي الشدة والأمراض والأسقام {فإليه تجأرون} يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر.
والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا داعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى: {ثم إذا كشف الضر عنكم} يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم {إذا فريق منكم} يعني طائفة وجماعة منكم {بربهم يشركون} يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} قيل: إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل: إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء {فتمتعوا} لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد.
يعني: فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم {فسوف تعلمون} يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}.
وصب الشيء دام، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذمّ الدهر أجمع واصبا

وقال حسان:
غيرته الريح يسفى به ** وهزيم رعده واصب

والعليل وصيب، لكنّ المرض لازم له.
وقيل: الوصب التعب، وصب الشيء شق، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها.
والجواز: رفع الصوت بالدعاء، وقال الأعشى يصف راهبًا:
يداوم من صلوات المليك ** طورًا سجودًا وطورًا جؤارا

{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبًا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك.
نهى أن يشرك به، ودل النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة.
ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو: نعم الرجل زيد، ونعم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر:
فإن النار بالعودين تذكي ** وأن الحرب أولها الكلام

أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد، وقال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص.
فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم.
والذي يساق به الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به.
ألا ترى أنك إذا قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل: أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية انتهى.
والظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد.
وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين.
وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبودًا واثنين على هذا القول تأكيد، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجود ذكرت في علم أصول الدين.
ولما نهى عن اتخاذ الإلهين، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال: {وإلهكم إله واحد} بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة.
ثم أمرهم بأنْ يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا.
وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميرًا منفصلًا والفعل متعديًا إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: {إياك نعبد} ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حين بلغت إياكا

ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى: أنّ له ما في السموات والأرض، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجودًا بإيجاده وخلقه، وأخبر أنّ له الدين واصبًا.
قال مجاهد: الدين الإخلاص.
وقال ابن جبير: العبادة.
وقال عكرمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الحدود والفرائض.
وقال الزمخشري وابن عطية: الطاعة، زاد ابن عطية: والملك.
وأنشد:
في دين عمرو وحالت بيننا فدك

أي: في طاعته وملكه.
وقال الزمخشري: أوله الحداد أي: دائمًا ثابتًا سرمدًا لا يزول، يعني الثواب والعقاب.
وقال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري: واصبًا دائمًا.
قال الزمخشري: والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب، وهو على معنى النسب أي: ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتنًا، أي ذا فتون.
قال الزمخشري: أو وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفًا انتهى.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين، وإن كان فيه الوصب.
والوصب: شدّة التعب.
وقال الربيع بن أنس: واصبًا خالصًا.
قال ابن عطية: والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله: {إله واحد} ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى.
ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولًا فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي: إنما هي إله واحد، فيكون من عطف الجمل.